نتنياهو ليس استثناءً!

وكالة نادي المراسلين الشباب للأنباء

رمز الخبر: ۶۸۷۸۹
تأريخ النشر:  ۱۹:۱۴  - الأَحَد  ۰۲  ‫یونیه‬  ۲۰۲۴ 
لقد سعى نتنياهو خلال السنوات الماضية لتكريس مفهوم "أن إسرائيل لا يمكنها الاستمرار من دونه"، فهل حقاً أن المجتمع الإسرائيلي، يُشارك نتنياهو القناعة ذاتها، وكيف لنا أن نفهم حالة الانقياد الأعمى لهذا المجتمع خلف نتنياهو؟

طهران- وكالة نادي المراسلين الشباب للأنباء- أفرد الكاتب الصحفي والدبلوماسي الإسرائيلي السابق ألون بنكاس في مقال مثير نَشرته صحيفة "هآرتس" العبرية قبل أيام، تحليلاً نفسياً مطوّلاً تناول فيه شخصية نتنياهو الذي يعاني، وفق الكاتب، من عدة متلازمات مَرَضية، إحداها هي "متلازمة لويس الرابع عشر"، كناية عن الحالة التي وصل إليها الملك الفرنسي المذكور عام 1655م، حين أطلق مقولته الشهيرة "أنا الدولة، والدولة أنا" رداً على البرلمان الذي سعى لتذكيره بجوع الفرنسيين وانتشار الفساد. 

وكنا قد سبقنا الكاتب المذكور في تشخيص حالة نتنياهو المَرَضِية في مقال نشرته الميادين نت قبل عامٍ ونصف من الآن تقريباً، تحت عنوان "ظاهرة الببي يزم في المجتمع الإسرائيلي.. كيف أصبح نتنياهو مَلِكاً؟"، حاولنا فهم كيفية مقدرة نتنياهو على الصمود والبقاء رغم الأزمات التي عصفت به في ظل النكسات المتتالية التي تعاني منها "إسرائيل" داخلياً وعلى المستوى الدولي!

اليوم، وفي خضم حرب الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" على غزة، يبدو أن بقاء نتنياهو سياسياً ليس منوطاً بشخصيته فحسب، بل تلعب طبيعة المجتمع الإسرائيلي وتكوينه النفسي والأيديولوجي دوراً مهماً في مقدرة نتنياهو على استمرار التحكم فيه وقيادته إلى الهاوية، من دون أن يُحرك ساكناً لإقصاء نتنياهو أو، على الأقل، كبح جماح مغامراته ونزواته التي بات، في حكم المؤكد لكثير من الإسرائيليين، أنها تأتي لاعتباراته الشخصية وتُلحق الأذى الشديد بـ "إسرائيل" ومجتمعها.

لقد سعى نتنياهو خلال السنوات الماضية لتكريس مفهوم "أن إسرائيل لا يمكنها الاستمرار من دونه"، فهل حقاً أن المجتمع الإسرائيلي، يُشارك نتنياهو القناعة ذاتها، وكيف لنا أن نفهم حالة الانقياد الأعمى لهذا المجتمع خلف نتنياهو؟

يمكننا الافتراض، من وحي متابعتنا للداخل الإسرائيلي، أن هنالك "كورال" واسعاً من الإسرائيليين الذين يستمرون بالهتاف لنتنياهو والسير على خطاه، وذلك لاعتبارات متعددة أهمها: 

أولاً: أن نتنياهو ليس وحده من يعاني عُقداً نفسية وسلوكية، بل إن المجتمع الإسرائيلي في غالبيته يعيش هو الآخر عُقد الاستعلاء والشعور بالتفوق القائم على فلسفة "شعب الله المختار" المستندة إلى الاصطفاء الإلهي، وهو ما يجعل بقية العالم "أغياراً" خارج دائرة القداسة يباح له أذيتهم، بل وقتلهم إذا لزم الأمر.  

ثانياً: علينا أن لا نغفل أنه لطالما وُجِد في "اللاوعي اليهودي" نوعٌ من المَلكية، فداوود وسليمان شخصيات نموذجية في الثقافة اليهودية لآلاف السنين، والصهيونية العلمانية عززت وصف هرتزل بـ"ملك اليهود". ويبدو أن "النظام الملكي" يجيب، في أوج الصراع الحالي، عن شوق اليمين لقائد قوي: "وأبٍ يحميهم، ويحمونه" يمثل، بالنسبة لهم، الحقيقة الوحيدة في "وجوده ذاته"، ولا يمكنه أن يخطئ لارتباطه باللاهوت، ولا مكان لانتقاد أفعاله أو أقواله.

ثالثاً: أن "إسرائيل" التي مضى على وجودها أكثر من 75 عاماً ما زالت تعيش مُعضلة "تبرير وجودها" وتُدرك أن شرعيتها مَحلَ نزاع، ويُدركُ شعبها، بشكلٍ بديهي، أنها ستستمر "كدولة" لفترة طويلة فقط إذا كان بالإمكان الدفاع عنها، بالمعنى المادي والمعنى الأخلاقي معاً.

فعلى المدى القصير، يمكن للكيانات السياسية "المشكُوك في حقها في الوجود" أن تعيش من خلال استخدام القوة المادية. ومع ذلك، وعلى المدى الطويل، فالبلدان التي لها ما يبرر وجودها في نظر الجمهور الذي يعيش فيها والمرتبط بها، هي فقط تلك التي تكون قادرة على الاستمرارية والاستدامة.

لذلك، فإن هذه المسألة بالنسبة إلى "إسرائيل" ليست مُجرد مسألة نقاشٍ فكري نظري، بل الأمر متعلقٌ بشكلٍ مباشر في "فُرصها في البقاء"، لأنه سيكون من المستحيل حماية "الدولة اليهودية" إذا اعتقد جُزءٌ كبيرٌ من سكانها أن هذا "المشروع" غير مُبرر، وبالتالي لا يستحق الحماية، إذ يُعوض استخدام القوة المفرطة الجمهور الإسرائيلي عن عدم مقدرته على تبرير وجود "الدولة" بالمعنى الأخلاقي خاصة وهي تعيش هذا الانتقاد الواسع والعزلة الدولية المتسارعة. 

رابعاً: يتغذى المجتمع الإسرائيلي على فزّاعة "القلق الوجودي"، الذي تسوّقُه قيادته له وللعالم لجني المكاسب السياسية ولاستمرار التحكم في "الوعي الجمعي" لهذا المجتمع.

وتتكئ نظرية الأمن الإسرائيلية وتتمحورُ حول نظرةِ الصهاينة إلى العربِ المُحيطين بهم، إذ تقومُ على تغذية الإحساسِ الدائم بأن العرب والعالم مُتربصون بِهم، لذا لا بُدَّ من أن يَظل المجتمع الإسرائيلي مُسلحاً إلى أقصى حَد باعتبارِ الحربِ مع العربِ حقيقةً لا بُد منها تضمَنُ مِن خلالها "إسرائيل" مجتمعاً مُسلحاً وتَضمنُ استدامة سُبل الإمداد والمساعداتِ الإمبرياليةِ لها.

وفي المجتمع الإسرائيلي الذي شكّلته سنوات من الانتفاضات وجولات الصراع المتتالية، والعداء الدولي المتزايد، أصبح التهديد الوجودي حجر الزاوية في وعيه، يحظى بإجماع يقطع المعسكرات السياسية، ما يُطلق يد الأحزاب والحكومة وأجهزة الأمن وحتى أفراد المجتمع، ويمنحهم ذريعةً لاتخاذ إجراءات صارمة لوضع حد لهذه "التهديدات الوجودية".

واليوم، يُترَكُ هذا التهديد بشكلٍ مقصودٍ خبيث، كجرحٍ مفتوحٍ لا يندمل، بما يسمح لليهود بالحُكم على أن "دولتهم" يتهددها خطرٌ رهيب يقتضي مساندة قادتها وتجنب نقدهم بسبب هذه المخاطر.

خامساً: يقودنا الاستنتاج السابق إلى أن الجمهور الإسرائيلي الذي تُحركه يمينيّته ورغبته في الانتقام، مثل قيادته تماماً، يريد الحرب ويريد القضاء على الفلسطينيين، وهذا ما تُظهره استطلاعات الرأي التي تشير إلى شبه إجماعٍ على مبدأ الحرب واختلافٍ على ترتيب أولوياتها. 

سادساً: يساعد المجتمع الإسرائيلي وعُقده العميقة الدفينة نتنياهو على البقاء في الحكم أطول فترة ممكنة؛ عبر انشغاله بصراعات داخلية يأكل فيها بعضه بعضاً، خاصة وأنه مجتمع تسوده اليوم انقسامات متعددة تحكم مشهده الاجتماعي السياسي، وهي: الانقسام القومي والديني والطائفي والطبقي، وأخيراً الأيديولوجي، ويتحوّل هذا الجدل إلى صراع يُشعِل نزاعاً بين "الأشقاء" بما يصرف الانتباه عن الحرب المتعثّرة، وتستمر آلة العنصرية والكراهية التي يحرّكها نتنياهو في نشر السُمّ بكلّ اتجاه في المجتمع الإسرائيلي لتزيد من حدة الشروخ والانقسامات. 

سابعاً: يعلم كثير من الإسرائيليين أن قتل الإسرائيلي "لأخيه" ليست بدعة مستحدثة في هذه الحرب، فـ "إسرائيل" وفق اليهودي المغربي الراحل، المعادي للصهيونية، أبراهام السرفاتي "لها تاريخ حافل في قتل رعاياها والاتجار بمآسيهم من دون اعتبارٍ لأيّ قيم دينية خدمة لأغراض سياسية، كما فعلت في قتل يهود المغرب عبر "إغراق السفينة إيكوز"، وعملية "فرهود" في العراق التي قتل فيها عشرات اليهود لحملهم على الهجرة إلى "إسرائيل".

وكما فعلت في بروتوكول "هانيبال" الذي يأمر الجندي الإسرائيلي إذا رأى زميلاً له يُختطف في ساحة المعركة، أن يبذل كل ما في وسعه لمنع هرب الخاطفين به، حتى لو أدى الأمر إلى مقتله. لذا، لا غرابة من فتور ردة فعل المجتمع الإسرائيلي تجاه ما يفعله نتنياهو وحكومته من قتل الأسرى الإسرائيليين بنيران إسرائيلية، أو قتل مئات الجنود بنيران المقاومة، أو نيران زملائهم! 

ثامناً وأخيراً، يدرك الجمهور الإسرائيلي أن ثقافة تحمّل المسؤولية لم تتجذر في "إسرائيل"، فبرغم الأخطاء والإخفاقات المتكررة التي ارتكبها قادة ومسؤولون إسرائيليون، فقد تجنبوا الاعتراف بمسؤوليتهم الشاملة أو الشخصية، ولم يستقيلوا من مناصبهم، بل سعوا إلى التهرّب وتحميل أطراف أخرى المسؤولية.

وبهذا المعنى، فإن نمط سلوك نتنياهو ووزراء حكومته في إثر الفشل والإخفاق نتيجة "طوفان الأقصى" وما تلاه، ليس جديداً ولا مستغرباً. ومن المفارقة أن غياب ثقافة تحمّل المسؤولية يُضعِف احتمال حدوثها في الواقع السياسي الإسرائيلي الحالي، ويبدو أن الجمهور "المُحبَط" في "إسرائيل" يدرك صعوبة امتثال المسؤولين المنتخبين لهذه الثقافة، وتحديداً نتنياهو، في ضوء حقيقة أنه استمر في السنوات الماضية في منصبه على الرغم من تقديم لوائح اتهام ضده.

الخُلاصة؛ يؤمن الإسرائيليون أنهم "قِلة من البشر الأخيار مُحاطين بعالم يعاديهم ويكرههم، وأنهم يواجهون خطر الإبادة، وأنه ليس لديهم ما يخسرونه في هذه الحرب الوجودية، وأن نتنياهو، بما يفعله، يحاول حمايتهم وهو الوحيد القادر على فعل ذلك في خضم كل هذه التحديات".

وعندما تُقرر الأغلبية أنّ رئيس الوزراء لا يمكن المساس به لأنه يتربع على رأس "نظام ملكي يحمي رعاياه تحت حماية الله"، فإنها تقضي على إمكانية إجراء مناقشة عامة حول سلوكه، وينظر إلى كل من ينتقده على أنه يخلّ بالنظام الطبيعي. إن هؤلاء يغيّبون أفكارهم وشخصياتهم ومستقبلهم لمصلحة فزاعة "التهديد الوجودي" التي تسكن عقولهم وتبقيها في حالة تنويم مغناطيسي وانقيادٍ أعمى خلف نتنياهو.
انتهی/

الكلمات الرئيسة
رأیکم