في عرف الولايات المتحدة لا اختلاف بين أروقة الأمم المتحدة وسراديب "داعش"، فأيهما كان الطريق الأقصر لتحقيق المصلحة كان هو الأداة أو السلاح، ففي الوقت الذي يكتب فيه وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر مقالًا تحذيريًا على مصالح أمريكا جراء هزيمة "داعش"، تثور زوبعة أممية لتوسيع صلاحيات قوات اليونيفيل في لبنان شرقًا وجنوبًا، وتطالب سفيرة أمريكا في مجلس الأمن نيكي هالي بتوسيع صلاحيات تلك القوات والتحقيق في انتهاكات حزب الله .
طهران- وكالة نادي المراسلين الشباب للأنباء- فهزيمة "داعش" بالنسبة للولايات المتحدة تعني فشلًا أمريكيًا في قطع أواصر محور يحفر الصخر لمقاومة هيمنتها، وتعني تعاظم قدرة وقوة ذلك المحور بما يشكل خطرًا وجوديًا على "إسرائيل"، ويعني تهديدًا جديًا وشعبيًا في أحد أوجهه، على أنظمة التبعية المطلقة والعمياء للولايات المتحدة، فالولايات المتحدة كإمبراطورية لا تعترف بمنطق الندية والشراكة، بل بمنطق التبعية والاستغلال، وهو ما يجعل من المقارنة بين محور منبطح اعتدالًا والمحور المقاوم مع منسوب مرتفع ولو نسبيًا من الكرامة لدى تلك الشعوب، سيجعل من هذه المقارنة خطرًا حقيقيًا على مصير تلك الأنظمة والعائلات الحاكمة.
يقول كيسنجر "في هذه الظروف، فإنّ القول المأثور عدو عدوي صديقي لم يعد ينطبق في الشرق الأوسط المعاصر، فعدو عدوك قد يكون عدوك أيضًا"، يقصد أنّ إيران عدو "داعش" عدو أمريكا هي عدو أمريكا وليست صديقًا، وبالطبع فهو هنا يفترض عداء "داعش" لأمريكا، "داعش" التي ترعرعت وانطلقت لتحقيق مصالح أمريكية "إسرائيلية" منذ اليوم الأول لانطلاقها، وأمدتها الأنظمة الوظيفية التابعة لأمريكا بكل ما يلزم لتغدو وحشًا كاسرًا، وافتراض كيسنجر هذا ينسفه التسريب المنسوب لوزير الخارجية الأمريكية السابق جون كيري، حين أقرّ بأنّ بلاده كانت تراقب نمو "داعش" باعتباره ورقة ضغطٍ هائلة لإرغام الرئيس الأسد على الجلوس لطاولة التفاوض، وبالرغم من ذلك سننظر إلى "داعش" بعين كيسنجر، وأنها عدو أمريكا لأنها نشأت وترعرت بمجهودٍ ذاتي، ورؤية استراتيجية عبقرية للبغدادي والشيشاني والعدناني، وأنّ أجهزة المخابرات الأمريكية والأوروبية و"الإسرائيلية" مجتمعةً لا يفوق ذكاؤها عقلية أصغر وأحقر عناصر "داعش" عقلًا ورتبة، فعلى قدر ما استغفلت "داعش" هذا العنصر من خلال العبث بحماقته وجهله وغرائزه، فقد استغفلت أدمغة تلك الأجهزة الاستخبارية البشرية والصناعية، فنحن أمام هاتين الفرضيتين حصرًا، فإما أن "داعش" ناتج ذكاء استخباري عالمي، أو أنّ تلك الاستخبارات أقل كفاءةً من عقل عنصر داعشي أشعث أغبر.
في الوقت الذي كان كيسنجر يقرأ مقالته التحذيرية بعد نشرها، كان وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف يدلي بتصريحاتٍ لافتة تضع الإصبع على نوايا الولايات المتحدة، حيث قال "أنّ أمريكا تقف صامتةً وربما تشجع بعض اللاعبين الخارجيين الذين لا يزالون يدعمون جبهة النصرة في سوريا، ونشتبه بأنهم يحمون جبهة النصرة لكي يستخدموها بعد هزيمة تنظيم داعش، كجماعة ذات استعداد قتالي عالٍ لمحاربة الحكومة السورية والتغيير المرجو للنظام"، وهذا ينفي العداء الأمريكي لكلا التنظيمين وأشباههما، كما أنّ جبهة النصرة حين أقدمت على تبديل إسمها أكثر من مرة، لم تكن تسعى لإرضاء "النظام" في سوريا مثلًا، كما أنها لم تكن تسعى لرفع الحرج عن الليبراليين والعلمانيين واليساريين الثوريين العرب، الذين يؤيدون ما يسمى بـ"ثورتهم"، بل كان الهدف رفع الحرج عن الولايات المتحدة وجون كيري وأوباما، لتستطيع أمريكا الاحتفاظ بورقة ضغط في الميدان السوري، إن استطاعت شمول جبهة النصرة بقائمة "الثوريين المعتدلين"، وبعد الفشل في تحقيق هذا الهدف بشكلٍ علني ومباشر، يقصد لافروف أنهم يسعون لتحقيقه من تحت الطاولة. وكنت قد أثرت في مقالٍ سابق قبل ثلاثة أعوام، إبّان الصراع الدموي الانفصالي بين "داعش" والنصرة، فكرة تحميل كل أوزار التطرف لتنظيم "داعش" واعتباره كبش فداءٍ لتبييض صفحة جبهة النصرة المعدلة والمعتدلة، وهذا يعني أننا لا نكتب جرّاء الصدمة والدهشة من أفكار كيسنجر، بل لنفاخر على أنفسنا قبل الآخرين بأننا كنّا في الخندق الصحيح، وأنّ الحقيقة المطلقة الوحيدة في هذا العالم دون أدنى احتمالٍ للنسبية بعد الموت، هي عدوانية أمريكا والحق المطلق هو العداء لها ولأدواتها.
لا أعرف كيف وصلنا في هذه المنطقة إلى مرحلة الحاجة للبرهنة على عدائية أمريكا واعتداءاتها، وهذه اللاأعرف هي للاستهجان لا للجهل، فقد صنع النفط "نخبة" سياسية ودينية وإعلامية لا ترعوي عن بيع كل شيء من النفس حتى الوطن، وتتخذ من جواب الحطيئة نبراسًا هاديًا، فحين سئل الحطيئة عن أشعر الناس، أشار إلى فمه وقال "هذا الحُجير إن طمع في خير"، وهذه النخبة وهي تطمع في عطايا النفط بدأت بمرحلة موازاة الاستعمار بالاستبداد، ثم انتقلت لتفضيل الاستعمار على الاستبداد، ثم الاستنجاد بالاستعمار للتخلص من الاستبداد، ثم برروا وجود التطرف كوجهٍ آخر للـ"ثورة" القابل للاحتواء والتهذيب بعكس الاستبداد، ثم مرحلة تفضيل التطرف والإرهاب على الاستبداد، ثم مرحلة الإرهاب صنيعة الاستبداد، ثم مرحلة الإرهاب والاستبداد اتفقا على سرقة "الثورة"، وهي مراحل بلا قاع وتؤدي إلى حالةٍ من تقزيم المقدسات والاستهتار بالمسلمات والمبادئ والمثل. واللافت أنّ أولئك النخبويين وهم يلعنون الاستبداد ويجاهرون بدعوة الاستعمار، يتحدثون من عواصم النفط والغاز الديمقراطية الاشتراكية الشعبية، وقد يكون في حديث كيسنجر الذي يبدو أنه سيطلق لحيته قريبًا إن لزم الأمر لحماية "إسرائيل"، ويصبح أبو هنري الأمريكي، قد يكون فيه أدلةً لهؤلاء القوم بأنهم في خندق "إسرائيل"، وقد تكون هذه ملاحظة أنهم يجهلون خندقهم ساذجة جدًا.
المصىر/ إيهاب زكي / بيروت برس