لم يكن المحامي الفرنسي فنسان كورسيل لابروس، المكلَّف بالدفاع عن مصالح حسين عنيسي، أحد المتهمين المفترضين باغتيال رفيق الحريري وحيداً في استغرابه تضييع المحكمة الدولية “كل هذه السنوات على مثل هذه المادة الضعيفة”، متسائلاً: “ما رأيكم الآن بالأموال التي أنفقت على هذه المحكمة؟”، وعشرات المحققين والقضاة العاملين فيها، فذلك كان حال معظم المعنيين بعمل المحكمة بغض النظر عن اختلاف جنسياتهم أو موقفهم السياسي والمبدئي من المحكمة قبولاً أو رفضاً.
طهران- وكالة نادي المراسين الشباب للأنباء - والحق فإن القرار النهائي الوارد في 2600 صفحة جاء بصيغته ومندرجاته كي يؤكد لكل ذي عينين أن خاتمة محكمة كهذه لن تكون أفضل من بدايتها ومسارها الطويل، وهو للحقيقة مسار مُعتل الأداء بدأ منذ لحظة الاغتيال بالاتهامات الجاهزة والمفبركة، والتسييس الفاضح، وشهود الزور، وقصص الشاهد الملك المزعوم، وشهادات حاقدة لسياسيين “كبار” وجدوها فرصة لاستغلال الدم في مآربهم وطموحاتهم فرسموا صورة مختلفة للحريري الأب باعتباره مناهضاً شرساً لسورية وهو كان وزير خارجيتها المعلن، وتوّج الأمر بتحقيقات تلفزيونية ملفقة لهواة يبحث بعضهم عن الشهرة أو لنصابين تلفزيونيين لا ترى عيونهم سوى مال الحريري والخليج الذي كان يُسفح دون حساب لكل من يدّعي شهادة تتهم سورية أو حزب الله بالجريمة، ثم اكتمل هذا الاعتلال بتبدل المحققين من ديتليف ميليس الذي ارتبط اسمه برحلات بحرية وويسكي فاخر على يخت خاص مروراً بسيرج براميرتيس الى دانيال بلمار الذي أصدر قراره الاتهامي مبنياً على حركة اتصالات لهواتف لا يعرف أحداً أصحابها ولا مضمون مكالماتهم فالمهم عنده أن جغرافيا الاتصالات كانت في محيط الحريري فقط لا غير، مضيفاً إليها بعض الرتوش البوليسي ونمائم الصالونات السياسية المعروفة.
والحال فإن رفيق الحريري كان يقف سياسياً اقتصادياً على تقاطع طرق مصالح محلية وإقليمية ودولية هائلة وخطيرة، وخاصة بعد عام (2003)، وقرار واشنطن إعادة رسم النفوذ والأحجام، وعلى هذا التقاطع تحديداً سُفك دمه بالاغتيال المروع في لحظة سياسية دولية مفصلية ليس القرار الدولي (1559) إلا أحد وجوهها المعلنة، فيما الأوجه المستترة أخطر بكثير، وكان من الطبيعي بالتالي أن يكون التحقيق الدولي، ثم المحكمة التي أنشأت بقرار أممي تحت الفصل السابع وخلافاً للدستور اللبناني، أداة من أدوات السياسة الدولية الراغبة في استثمار دم الرجل في تحقيق مصالحها، وهذا تبدى منذ اللحظة الأولى في استبعاد كل فرضية إلا الفرضية السورية حينها، وحزب الله لاحقاً، ولتحقيق ذلك جرى سجن الضباط الأربعة، باعتبارهم الجزء اللبناني فيما أصبح يدعى النظام الأمني اللبناني السوري المشترك، دون أي دليل أو قرينة، ثم حفل التحقيق وخاصة أيام “ميليس” بالسياسة لا القانون والأدلة والبراهين، وكان أحد أوجهها تهديد كل من لا يقف مع (14آذار) باتهامه بالمشاركة بجريمة الحريري، واختتم الاعتلال السياسي والقانوني “بلمار” بدليل الاتصالات الضعيف، وهو الذي استندت إليه المحكمة لتخرج بعد كل هذه السنوات، وبعد مليار دولار لتقول لنا أنها لا تعرف مَن هو الانتحاري، ولا مَن جنّده، ولا من ضلّل التحقيق، ولا مَن اشترى الشاحنة ومن استخدمها للتفجير، ولا من فخّخها ولا أين، ولا أي شيء حول قصة احمد أبو عدس، ولا أسماء أصحاب الخطوط الستة المسماة بشبكة التفجير، وحتى في قرار إدانة المتهم “سليم عياش” المبني على دليل الاتصالات لا يوجد تسجيل لهذه المكالمات ولا مضمون رسائل نصية، ولم تتطرق إلى مجموعة السعودي “فيصل أكبر” الذي اعترف بالجريمة وسرد وقائع عنها لم يكن المحققون الدوليون قد توصلوا إليها بعد.
والأدهى من ذلك أن قرار المحكمة الرسمي جاء حافلاً بتعابير وجمل مثل: “من المرجّح جداً”، أو “من المحتمل جداً أنّ المشاركين في الاغتيال قرروا قتل الحريري في حال بقي على موقفه المعارض لسوريا”، وهذا ليس كلام محكمة تتبع أعلى المعايير الدولية، بل كلام محلل سياسي من نوع “الاستراتيجيين الصارخين” على الشاشات.
ثم اكتمل “نقل” تسييس المحكمة بـ”زعرور” تأجيل النطق بالحكم بدعوى آثار انفجار بيروت، ولمن ينكر التسييس نذكّره بأن “جون بولتون”، وغيره الكثير، حدّد منذ سنوات مضمون قرار المحكمة الاتهامي، وأن موظفة في مكتب الأمين العام للأمم المتحدة طلبت، في سابقة غريبة، من قاضي الإجراءات التمهيدية في المحكمة عدم القيام بتصرف ضد بعض الأشخاص الذين ساهموا بكذبهم وشهادتهم المزورة، في الإساءة إلى التحقيق الدولي وضرب مصداقيته وحرفه عن مساره المفترض، ما يشكل فضيحة قانونية وسياسية ودولية بكل المعايير، وإذا كانت موظفة تستطيع ذلك فما بالنا بالدول الكبرى والقوى العظمى التي أنشأت المحكمة ومولتها ورعتها بجفون العين كما يقال.
لكن المفارقة اليوم أن قوى (14 آذار) التي تشعر بالخيبة من الحكم هي الآن من يتحدث عن التسييس في عمل المحكمة، وهي الكلمة التي جرّمتها واستهزأت بها وبقائلها خلال خمسة عشر عاماً، وهي اليوم من تحاول مع وسائل إعلامها العربية والدولية إعادة كتابة القرار وتفسيره على هواها، وكان “مصطفى علوش” و”أحمد فتفت” مجليّين كعادتهما في هذا السياق، لكن أكثرهم فجوراً كان “الخبير في شؤون حزب الله” في معهد “واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” ماثيو ليفيت، الذي اعتبر أنّ المحاكمة “ربما تكون قد حقّقت شيئاً مهماً، من خلال تحميل حزب الله المسؤولية العلنية عن عمل إرهابي يستهدف مواطنين لبنانيين”، فيما المحكمة ذاتها قالت علناً أنها لا تملك أدلة على قيام حزب الله بهذه الجريمة.
لم تنته أعمال المحكمة بعد، فما زال هناك حق الاستئناف للمتهم، كما يمكن للادعاء العام نقض الحكم أو تقديم قرارات اتهامية جديدة، بحق متهمين جدد، في الجريمة نفسها، وهذا يعني سنوات جديدة واستثمار سياسي متواصل ونزف أموال لبنانية تدفع لموظفين دوليين من مصلحتهم المالية إطالتها مدى الحياة.
لكن الوقائع تقول إن زمن الاستثمار السياسي لجريمة اغتيال الحريري كآلية تطبيقية للقرار 1559، انتهى بعد أن تحقق الانسحاب السوري من لبنان، أما نزع سلاح حزب الله الذي فشلت فيه فسيكون مهمة وهدف الاستثمار السياسي المحلي والدولي في تفجير مرفأ بيروت، وبالطبع سيكون هناك شهود زور، وسياسيين حاقدين، وربما تحقيق ومحكمة دولية، لكن وبالـتأكيد، أموال لبنانية جديدة تُسرق، وشرخ سياسي ومجتمعي وطائفي ومذهبي في بنية لبنان الجاهزة للانفجار.
أحمد حسن/ موقع "برس361"