طهران- وكالة نادي المراسلين الشباب للأنباء -"ما الاكتئاب؟"، على بساطته، ما زال هذا السؤال هو محط انتباه(1) نشاط بحثي واسع يحاول، يوما بعد يوم، أن يسبر أغوار الدماغ البشري لكي يكشف عن آلية عمل هذا الوحش الذي يصيب أكثر من 300 مليون شخص سنويا من جميع الأعمار. بحسب(2) منظمة الصحة العالمية، فالاكتئاب هو "السبب الرئيسي للعجز في جميع أنحاء العالم، والمساهم الأساسي في العبء العالمي الكلي للمرض".
لكن إحدى تلك المحاولات للتعامل مع الاكتئاب قد جاء من نطاق مختلف تماما عمّا يمكن أن نظن، ففي دراسة(3) نُشرت قبل عدة أيّام فقط، بقيادة "جوزيف فيرث" الباحث بمركز "NICM" الصحي وجامعة مانشستر في بريطانيا، كشفت النتائج عن علاقة غاية في الإثارة بين الأعراض الاكتئابية (Depressive disorders) والحمية الغذائية، حيث كان خفض الوزن، وتنويع الوجبات، وتقليل نسبة الدهون في الطعام، ذا أثر إيجابي واضح على التقليل من شدة تلك الأعراض.
فتّش عن المعدة
"هذه في الواقع أخبار جيّدة"، يقول فيرث في حواره لـ "ميدان": "يبدو لنا أن تحسين النظام الغذائي يقلل بشكل كبير من أعراض الاكتئاب، حتى في هؤلاء الذين لم يحصلوا على تشخيص بالاكتئاب يوما ما"، كانت الدراسة الجديدة هي "تحليل تلوي" يحاول فحص نتائج 16 دراسة سابقة في هذا المجال شملت في المجمل 46 ألف شخص.
مواقع التواصل
التحليل التلوي(4) (Meta-analysis) هو عملية تطبيق للآليات الإحصائية من أجل دراسة نتائج عدة دراسات قد تكون متوافقة أو متضادة مع بعضها البعض، من أجل تحديد اتجاه واحد واضح لتلك المجموعة من الدراسات، ويفيد هذا النوع من الآليات العلمية في تعميم النتائج لعدد أكبر من العيّنات الخاضعة للتجارب، وكذلك في تحسين دقة تلك النتائج وربطها بشكل أفضل بالفرضيات، وبالطبع في الوقاية من تحيز تجربة بعينها لنتائج سابقة، لذلك يفيد كثيرا في العلوم الطبية، والنفسية، والاجتماعية، تلك التي تواجه مشكلة في احتياجها إلى عدد ضخم من العينات البشرية من أجل بناء نظرياتها، خاصة مع طبيعة نتائجها الإحصائية.
وعلى الرغم من أن الأسباب الفعلية لهذه العلاقة الغريبة بين الاكتئاب والنظام الغذائي غير مفهومة بعد فإن فيرث، في حواره مع محرر ميدان، يقترح أن يكون الأمر مرتبطا، بشكل أو بآخر، مع تلك الدلائل المتصاعدة يوما بعد يوم في المجال البحثي والتي تربط بين تأثير تناول الطعام ومستويات الالتهاب في جميع أنحاء الجسم، ونحن نعرف -بحد تعبير فيرث- أن الاكتئاب قد يرتبط أيضا بارتفاع مستوى الالتهابات في الجسم، وهو ما يجعله مسارا طبيعيا يمكن من خلاله لاتباع نظام غذائي غير صحي أن يسبب أعراض الاكتئاب.
بالإضافة إلى ذلك، فهناك المزيد والمزيد من الأبحاث الحديثة التي تناقش دور القناة الهضمية تحديدا والميكروبات الساكنة بها في الصحة العقلية، ولذا فمن الممكن أن يؤثر النظام الغذائي على صحة الدماغ والمزاج من خلال ما يمكن أن نسميه(5) بـ "محور الدماغ والقناة الهضمية" (gut-brain axis)، والذي يشير إلى أن هناك نوعا من التواصل عبر الإشارات البيوكيميائية بين القناة الهضمية والجهاز العصبي المركزي، وهو نشاط بحثي ظهر قبل نحو عشرة أعوام.
في الحقيقة فإن هذا الرأي الأخير قد يجد الكثير من التأييد في الفترة المقبلة. على سبيل المثال، في دراسة(6)،(7) جديدة، نُشرت قبل عدة أيام فقط في الدورية الأكثر شهرة "نيتشر"، كان فريق بحثي دولي قد استخدم تقنية تسلسل الحمض النووي لتحليل الجراثيم في فضلات أكثر من 1000 شخص مسجلين في مشروع "فلمنش غوت فلورا" البلجيكي.
بعد ذلك، ربط الفريق بين الأنواع المختلفة من الميكروبات المعدية وبين نمط حياة المشاركين وحالات الاكتئاب، ووجد الباحثون أن مجموعتين من الخلايا البكتيرية المعدية قد انخفضتا في الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب، هذه النتائج الأخيرة هي إحدى أقوى الإشارات البحثية، إلى الآن، على وجود تلك العلاقة بين الميكروبات المعوية والصحة العقلية، ونتحدث هنا بشكل أعم عن وظائف الدماغ مثل الذاكرة والسلوك الاجتماعي بجانب الاكتئاب والأمراض النفسية والعصبية في العموم.
أي حمية ستكون مفيدة؟
من جانب آخر، فإن إحدى أهم النتائج المثيرة للتأمل في الدراسة الجديدة، وسابقاتها في هذا المجال البحثي، هي أن مجرد إجراء(8) تغييرات بسيطة في الحمية الغذائية الخاصة بك سيكون مفيدا بالقدر نفسه للصحة العقلية وتعزيز المزاج، سواء كنت مصابا بالاكتئاب أو حتّى بشكل طبيعي، أضف إلى ذلك أن هذا التحسّن لم يظهر في حمية غذائية محددة، بل بدا أن تناول المزيد من الوجبات الغنية بالكربوهيدرات المعقدة كالخضراوات والفواكه والحبوب، مع تقليص كم الوجبات السريعة وتلك التي تحوي السكر المكرر، كان كافيا لتفادي التأثيرات النفسية السلبية المحتملة لنظام غذائي يعتمد على "الوجبات السريعة".
في تلك النقطة يضيف فيرث في حواره مع محرر ميدان: "حسب النتائج التي تحصّلنا عليها من بحثنا، يبدو أن جميع أنواع الوجبات الغذائية الصحية لها تأثيرات مشابهة على الصحة العقلية"، ليضيف بعد قليل: "ويشمل ذلك النظام الغذائي لفقدان الوزن بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من السمنة المفرطة، أو أي نظام آخر يهدف إلى زيادة استهلاك الغذاء الصحي وتقليل استهلاك الغذاء غير الصحي".
وكانت دراسة أخرى(9) قد صدرت قبل عدة أشهر فقط من جامعة جيمس كوك الأسترالية قد تقصّت تلك الجزئية الخاصة بالوجبات السريعة بشكل خاص عبر مقارنة نسب الاكتئاب بين جزيرتين، الأولى أكثر قربا إلى محال الوجبات السريعة ما يدفع سكّانها لاستهلاك تلك الأطعمة بشكل أكبر، والثانية لا تحوي أيا من محال الوجبات السريعة في محيطها ما يجعلها معزولة عن هذا النوع من الأطعمة.
حمّى الوجبات السريعة
هنا جاءت النتائج(10) لتقول إنه من بين 100 حالة تم فحصها طبيا، جاءت 19 حالة فقط تحمل أعراضا اكتئابية، منها 16 حالة في الجزيرة القريبة من محال الوجبات السريعة والتي يستهلك سكّانها الكثير من تلك الوجبات، في مقابل 3 فقط بالجزيرة الأخرى والتي يعتمد سكّانها بشكل رئيس على نظام صحّي مرتبط بالأسماك، لكن ملاحظة أخرى مهمة يمكن أن نتأملها في الدراسة الأخيرة، وهي أن معظم أصحاب الأعراض الاكتئابية -بجانب كونهم مستهلكين نهمين للوجبات السريعة- كانوا من فئة الشباب صغيري السن.
تلفت تلك النقطة الانتباه كثيرا. على سبيل المثال(11)، بين العامين 2005 و2014، ارتفعت نسب الاكتئاب في الفئات صغيرة السن، ونتحدث هنا عن الأعمار بين 12-17 سنة، بقيمة 37%، هذا رقم كبير للغاية إذا تأملته قليلا، وبالطبع فإن انتشار الهواتف الذكية، والمجتمعات الافتراضية عبر وسائل التواصل الاجتماعي من خلالها، هو المتّهم الأول في تلك الجريمة، لكنّ متهما آخر لم يكن في الحسبان هو "الوجبات السريعة".
لفهم ذلك دعنا نتأمل(12) نسب ارتفاع أعداد المواد الغذائية سابقة التجهيز كثيفة الطاقة سريعة التحضير في الأسواق العالمية، من 5000 مادة سنة 1980 إلى 35000 مادة غذائية سنة 2000، مع ارتفاع ملحوظ في أعداد متناولي الطعام خارج المنزل، إن هذا التغير في عادات البشر، أدى إلى إعادة هيكلة في المجتمع، لكنه كذلك يمكن أن يكون أحد العوامل المهمة المؤثرة في الصحة النفسية، يضيف فيرث في حواره مع محرر ميدان: "على الرغم من أن هناك نقصا حاليا في الأبحاث حول تأثير النظام الغذائي على الصحة النفسية لدى الأطفال الصغار، فإن هناك أدلة قوية متزايدة على أن السمنة عند الأطفال ترتبط بالاكتئاب"، ثم يستأنف بعد قليل: "يجب أن تختبر الدراسات المستقبلية ما إذا كان بإمكاننا تحسين صحة الأطفال العقلية ورفاهيتهم من خلال التعامل مع البدانة في مرحلة الطفولة".
والمشكلة أن يقترن ذلك بموجة عالمية واسعة من الكسل، خلال العقود السابقة حوّل الإنسان جهده نحو الآلة، لو قررنا على سبيل المثال مقارنة(13) تغيرات استخدام السعرات الحرارية بين عامي 1950 و2000 سوف نجد أن الذهاب للتسوق مشيا على الأقدام، والذي يستهلك بدوره 2400 سعر حراري، قد أصبح بالسيارة، ما يعني فقط 275 سعرا حراريا، وأن غسيل الملابس باليد، والذي كان يستهلك 1500 سعر حراري، عوضت عنه الغسّالة الأوتوماتيكية، لنبذل فقط 270 سعرا حراريا، وبهذا النمط حدثت تغيرات جوهرية في شتى جوانب الحياة، مما تسبب بالنهاية في أن معادلة استهلاك الطاقة قد مالت كثيرا ناحية تخزينها في الجسم على هيئة دهون.
تحكّم في ذاتك
في المقابل من ذلك وجد فيرث(14) ورفاقه أن هؤلاء الذين أرفقوا التمارين الرياضية بجانب الحمية الغذائية الصحّية كانوا أكثر تحسنا، لكن المشكلة التي ما زالت تواجه هذا المجال البحثي هي إن كانت تلك العلاقات عكسية أم لا. بمعنى أوضح، هناك بالفعل علاقة واضحة بين نمط التغذية الذي نعتمده في حياتنا ومزاجنا، لكن هل يمكن أن تكون الحميات الغذائية الضارة -بالأساس- سببا في الاكتئاب أو القلق أو غيرها من الاضطرابات العقلية؟
"هناك بعض الدراسات واسعة النطاق التي تبين أن الأشخاص الذين يعانون من حمية غير صحية هم أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب من أولئك الذين لديهم حمية صحية"، يقول فيرث في حواره مع محرر ميدان، ليستكمل قائلا: "ومع ذلك، هناك حاجة إلى مزيد من البحوث لاختبار ما إذا كان تحسين النظام الغذائي للشعوب، بشكل عام، من سن مبكرة، يمكن أن يمنع أو يقلل من ظهور مرض الاكتئاب".
في الحقيقة، فإن أكثر ما يمكن ملاحظته في الحياة المعاصرة هو تلك الحالة من الإغراق بالملذات، سواء تحدثنا عن الطعام كثيف الطاقة، أو الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، أو حتّى في أفلامنا ومسلسلاتنا وأغانينا، في كل جوانب حياتنا تواجهنا الملذات بصورة لم نكن نتصور يوما في تاريخنا أن تحدث، وهذا هو شيء لا يمكن لنا -كبشر، تلك الكائنات التي عاشت حياة فقر مدقع وخوف مهيب قبل مئة ألف سنة- أن نتكيّف بسهولة مع ذلك. بالتالي، ورغم كل التقدم الذي أحرزناه، فإن نمط الحياة المعاصر يجعل من "قوة الإرادة" أكثر أهمية من أي وقت مضى في تاريخنا، يجب أن نتحكّم في حياتنا لنتمكّن من العيش بسلام.
لذلك، وبحد تعبير فيرث، فإن "أي نظام غذائي متطرف من المحتمل أن يكون غير ضروري تماما للفرد العادي"، دعنا نأخذ تلك المعلومة كحقيقة واسعة التأثير، ليس فقط في نطاق الحالة المزاجية الخاصة بنا، ولكن في كل شيء آخر خاص بنا، نحن نسكن في منطقة من العالم تضربها العواصف الاقتصادية يوما بعد يوم، نبذل الكثير من الجهد من أجل حياة قد لا تكون كريمة، وتشير الكثير من الأبحاث(15) إلى أن الاضطرابات الاقتصادية والسياسبة قادرة على التأثير بشكل جوهري في صحة عقولنا وقلوبنا، وفي ظل أجواء كتلك فإن تنمية معارفنا في جوانب الغذاء الصحيح وممارسة الرياضة ليست رفاهية، بل هي ضرورة للحياة العادية في منطقة قاسية من العالم.
المصدر: الجزیره
انتهی/