عرفت مجتمعات شمال إفريقيا والشرق الأوسط الدولة الحديثة أول مرة في بدايات القرن العشرين مع قدوم الاستعمار، وعندما حصلت البلدان العربية على استقلالها، تربعت على سلطاتها أنظمة سياسية ورثت مؤسسات حديثة، جعلتها أكثر قدرة على التحكم في المجتمع والثروة من ذي قبل، وبالموازاة مع ذلك بدأت المجتمعات العربية تخرج ببطء من حياة البداوة والقبلية نحو المدنية، بفضل انتشار المدارس والمستشفيات والمسارح الفنية.
طهران- وكالة نادي المراسلين الشباب للأنباء- مع ذلك، بقيت بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط تحت نير التخلف والدكتاتوريات الفاسدة، بالرغم من السياق العالمي الذي يشهد تطورًا سريعا في ظل عولمة الاقتصاد والمعرفة والتكنولوجيا الجديدة، إلى أن عصفت بالمنطقة العربية في 2011 رياح «الربيع العربي» بعد أن ضاقت الشعوب ذرعا بحكامها، إلا أن هذه الثورات الشعبية العارمة لم تسفر، بعد ست سنوات من اندلاعها، عن دول مدنية حديثة ترعى حقوق مواطنيها وتحافظ على سيادة القانون.
وعوض ذلك، استمرت النخب الفاسدة في سدة السلطة من وراء ستار، مستغلة أدواتها الدينية والمالية والإعلامية والسياسية لإجهاض التغيير، وهو ما نجحت بالفعل في تحقيقه وأعادت شعوبها إلى حظيرة الدكتاتورية والفساد الذي كانت تعيشه من قبل، هذه الشعوب الثائرة التي فشلت في بلورة مشروع حقيقي بديل لـ«دولة النخب»، حيث تبين بوضوح ضعف وعي الطبقات الشعبية، قاعدة ورموزاً، بأساسيات الدولة المدنية الحديثة، ليفسح هذا الفراغ المجال لعودة الدولة العميقة.
بين «الدولة المدنية» و«الدولة المستبدة»
عبرت الدولة المدنية المعاصرة حقباً مديدة قبل أن تتطور للشكل الذي تبدو عليه حالياً لدى البلدان المتقدمة، حيث بدأ تبلور مفهوم الدولة الحديثة منذ القرن السادس عشر والسابع عشر، مع نخبة من المفكرين والفلاسفة الغربيين الذين بدأوا عصر التنوير، ثم ترسخت شيئاً فشيئا بعد الثورات الشعبية التي اجتاحت أوروبا وأمريكا خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر، حيث انهارت الملكيات الإقطاعية الحاكمة باسم الإله في البلدان الأوروبية، ليصبح مفهوم الدولة الحديثة أكثر نضجاً وتطوراً بعد الحرب العالمية الثانية مع السياق العالمي الجديد.
ويعرف القانون الدولي «الدولة» بأنها ذات السيادة على حدودها الإقليمية التي أنشأت في إطار القوانين التي تنطبق على السكان الدائمين، وتتكون من المؤسسات التي تمارس السلطة الفعلية، غير أنه ليس كل دولة هي دولة مدنية ديمقراطية، حيث توجد دول، لكنها مستبدة.
تتفرد الدولة المدنية عن نظيرتها المستبدة بكونها مؤسسات تمثل شعوبها وتعمل على خدمة الصالح العام، وليس المصالح الضيقة لأصحاب السلطة، في حين تكون الدولة المستبدة تمثل نخباً ضيقة تعمل لفائدة مصالحها الخاصة أكثر مما يهمها الصالح العام، مما يجعل الأولى أكثر تفوقاً في أداء مهمة الدولة، الممثلة بالأساس في تقديم الخدمات الأساسية لمواطنيها: الأمن والعدالة وسيادة القانون، فضلاً عن التعليم والعمل والصحة وحفظ حقوق الإنسان.
ولأجل ذلك، تبلورت على مدى قرون إلى اليوم مجموعة من المبادئ والأعراف الديموقراطية المضمنة في دساتير الدول المتقدمة، التي تضمن استمرار مدنية الدولة بغض النظر عن التوجهات السياسية للحكومات المنتخبة، بداية من العلمانية والتعددية والمواطنة بالإضافة إلى استقلالية القضاء وفصل السلط وسيادة القانون وانتخاب الحكومات والرؤساء شعبياً، علاوة على حقوق الإنسان وحرية الصحافة والتعبير.
بخلاف الدول المستبدة، كالشأن في البلدان العربية، تغيب في دساتيرها استقلالية القضاء وحرية التعبير وحقوق الإنسان؛ مما يفسح المجال أمام النخب التي تشغل السلطة في استغلال هذه الثغرات لخدمة مصالحها الخاصة وقمع معارضيها، فتخل بـذلك بـ«العقد الاجتماعي» الذي يربط الدولة والمواطن، الممثل في تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين من أمن وتعليم وصحة وشغل وعدالة قانون.
الأنظمة العربية و «دولة المافيا»
ظهرت المافيا في منتصف القرن التاسع عشر في جزيرة صقلية بإيطاليا، وهي تحالف حر بين عصابات إجرامية تجمعها بنية تنظيمية واحدة وقواعد سلوكية موحدة ومصالح مشتركة، وبلغت قوتها لدرجة توغلها في مؤسسات الدولة، فأصبحت إيطاليا تحت حكم المافيا طوال قرن ونصف، إلى أن استطاع القضاء الإيطالي بدعم من المجتمع المدني خلال نهايات القرن العشرين دحر تلك العصابات، التي كانت تملك نفوذاً واسعاً في الإعلام والسياسة والاقتصاد وأجهزة الشرطة.
وتشتغل المافيا بنظام شبيه إلى حد كبير بنظام الدول المستبدة، إذ يتزعمها رئيس يلقب بـ«كابو» وهو الحاكم الفعلي للعصابة بأكملها، ويحصل على الحصة الكبرى من الأرباح ليوزع الباقي على أفراد العائلة وفق تسلسلهم الهرمي، ويشغل قادة العصابة مراكزهم مدى الحياة، إلا إذا قرروا مخالفة مصلحة العائلة (المافيا)؛ فحينها يتعرضون للقتل أو النفي، كما يتوارثون الزعامات على أساس القرابة أو الصداقة، ويتعاطون لكل أشكال الفساد المالي وانتهاك القانون.
تتبع أيضا المافيا نظاماً فريداً في الحصول على الأموال، وذلك بفرض الإتاوات على المواطنين واحتكار الأسواق والاستثمار في الأعمال غير المشروعة، ويلتزم أفرادها بالصمت دون إفشاء الأسرار، أما من يتعرض لمصالحهم أو يسعى لكشف جرائمهم من الصحفيين والقضاة والناشطين، فيكون مصيره الاختطاف والاغتيال، فتصير عائقا بين المواطنين والدولة، التي تملك وحدها الحق في ممارسة العنف والإكراه طبقاً للقانون.
وداخل هذا الإطار، أطلق اسم «دولة المافيا» على الدول المستبدة، حيث تكون النخب الحاكمة أشبه بتنظيم عصابات «المافيا» الإيطالية، تجمعها مصالح مشتركة، ويتزعمها فرد واحد بيده كل السلط والصلاحيات، وتشتغل هذه النخب بمنطق المصالح الخاصة والانتقام والسرية، وتتعاطى أشكال الفساد المالي وتتوارث المناصب والمسؤوليات، وتستحوذ على السياسة والاقتصاد، ناهيك عن تهديدها الإعلام والقضاء، فتصبح مؤسسات الدولة تخدم مصالح هذه النخب بدل أن تخدم المواطنين.
وتنطبق خصائص «دولة المافيا» على العديد من الدول العربية، كما يرى الكاتب فهد المضحكي، حيث نخب قلة تستحوذ على سلط الدولة وموارد البلاد، وتحصن مصالحها من خلال الإعلام والمخابرات وأجهزة الأمن والقضاء والإدارة، وتبني شرعيتها السياسية على منطق الترهيب والترغيب، بدلاً عن أن تكون هذه الدول خاضعة لمبدأ السيادة الشعبية، لتستطيع تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين وحمايتهم مقابل الضرائب، المهمة الوحيدة التي أسست من أجلها الدولة.
المجتمع الدولي يضيق ذرعاً بالأنظمة المستبدة
في السياق المعولم الذي نعيشه في العصر الراهن، غدت الأنظمة السياسية الفاسدة في إفريقيا والشرق الأوسط عامة عبئاً على المجتمع الدولي، بعدما باتت تتسبب في إفلاس بلدانها وتفقير وتجهيل شعوبها، فتجعل دولها بؤراً سوداء تصدر «الإرهاب» والجريمة وملايين المهاجرين إلى البلدان الغربية، كما تخلق هذه الأنظمة مشاكل في النظام الاقتصادي العالمي المترابط، بسبب فسادها وسوء تدبير ميزانيتها.
ونتيجة ذلك، بات المجتمع الدولي اليوم، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، يتوجه شيئاً فشيئاً نحو الضغط على هذه الأنظمة السياسية لدفعها نحو التغيير، سواء ظهر ذلك من خلال التقارير الحقوقية النارية للخارجية الأمريكية وخارجية الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية، أو من خلال الرقابة الشديدة المفروضة على الأموال العابرة، بعد تسريبات البنوك السويسرية وبنما، التي كان فيها المسؤولون السياسيون للبلدان المستبدة حاضرون بقوة، ناهيك عن الجهود الأممية التي تسير نحو تأسيس محكمة دولية تابعة للأمم المتحدة لمحاكمة المسؤولين المرتشين.
غير أنه في الوقت ذاته، يعي المجتمع الدولي محدودية قدرة تأثيره على المساعدة في بناء مؤسسات للدولة تتسم بالمرونة والفعالية والشرعية والمرونة بمجتمعات الشرق الأوسط وإفريقيا، كما أثبتت التجارب، حيث أن بناء الدولة ليس مجرد عملية فنية، وإنما هو عملية تتطلب خلق الشعور بالمواطنة وتنطوي على قيم وتوقعات وتصورات جماعية تتعلق بالدولة المدنية يتبناها الأفراد، تنطلق من القاعدة إلى القمة وليس العكس.
وهذا ما ينصح به تقرير خبراء الاتحاد الأوروبي لمعالجة الهشاشة في إفريقيا، حيث يدعو إلى اعتماد نهج تدريجي حذر، بدلاً عن النهج الشامل في هندسة الدولة من الفوق إلى الأسفل بالبلدان الإفريقية الهشة من قبل الأطراف الدولية، بحيث يحث التقرير على تثبيت العقد الاجتماعي بين المواطنين والدولة وتعزيز الشعور بالمواطنة الجماعية، ثم تقوية مؤسسات الدولة لتمكينها من تقديم الخدمات الأساسية، وكل ذلك يتم بما يتوافق مع السياق الثقافي المحلي، ويكون المجتمع المدني لبنة أساسية في عملية البناء.
المصدر/ شفقنا