الهند تسير على حبل مشدود، إذ تركز على علاقاتها الطويلة الأمد مع روسيا، وتحافظ على علاقاتها الأمنية والدفاعية مع الغرب، ولكن إلى أي مدى ستبقى نيودلهي قادرة على تحقيق التوازن؟
طهران- وكالة نادي المراسلين الشباب للأنباء- بعد ما يقارب 5 سنوات، زار رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي روسيا، وعقد القمة السنوية الثانية والعشرين بين الهند وروسيا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إذ يواظب البلدان على عقد قمة سنوية منذ العام 2000، ولكن خلال السنوات الأخيرة تعذر عقد القمة بسبب الحرب الأوكرانية. ومع ذلك، التقى الزعيمان الهندي والروسي في قمة شنغهاي للتعاون التي عقدت في أوزبكستان عام 2022، ولم تتوقف الاتصالات الهاتفية بينهما طوال السنوات الماضية.
تقليدياً، كان ناريندرا مودي يختار دولة أو أكثر من الدول المجاورة للهند كوجهة أولى لزياراته الخارجية بعد انتخابه رئيساً لوزراء الهند، وفي ذلك إشارة إلى أهمية دول الجوار بالنسبة إلى الهند باعتبارها أولوية في السياسة الخارجية الهندية، إلا أنَّ مودي فضّل أن تكون زيارته الأولى بعد إعادة انتخابه للمرة الثالثة لرئاسة وزراء الهند إلى روسيا للتأكيد على مكانة الأخيرة المهمة لدى الهند ورغبته في تعزيز العلاقات مع موسكو بالرغم من الحرب الدائرة في أوكرانيا والعقوبات الغربية.
وتأتي زيارة رئيس وزراء الهند إلى موسكو بعد حضوره قمة مجموعة السبع التي عقدت الشهر الماضي في إيطاليا، ومشاركة الهند في قمة سويسرا للسلام بشأن أوكرانيا وامتناعها عن التوقيع على البيان الختامي.
ترتبط الهند وروسيا منذ زمن بعيد بعلاقات قوية، إلا أنَّ علاقاتهما تعززت وتطورت أكثر بعد الحملة العسكرية التي شنتها روسيا على أوكرانيا، إذ اتبعت الهند سياسة الحياد، وامتنعت عن إدانة روسيا وفرض العقوبات.
وعلى الرغم من الضغوطات الغربية عليها لإدانة روسيا والتوقف عن استيراد النفط الروسي، فإنَّ نيودلهي رفضت سياسة العقوبات على موسكو، ودعت إلى حل الأزمة الأوكرانية عبر الحوار والدبلوماسية، واستمرت في اعتمادها على النفط الروسي الذي تحصل عليه بسعر منخفض. ويسعى رئيس وزراء الهند في روسيا إلى الحصول على سعر أقل من السعر الحالي وزيادة التعامل بالعملات المحلية.
ومنذ الحرب الأوكرانية، أخذت الهند تزيد حصولها على النفط الروسي، بحيث أصبحت موسكو أكبر مورد للنفط إلى الهند؛ ثالث أكبر مستهلك للنفط عالمياً. وبات النفط الروسي يشكل 35% من إجمالي واردات الهند من النفط الخام خلال السنة المالية 2023-2024، إذ استوردت الهند خلال هذه الفترة 1.64 مليون برميل نفط يومياً من النفط الروسي بزيادة 57% عن العام السابق.
ونظراً إلى تعزيز العلاقات النفطية بين الهند وروسيا، ارتفع حجم التبادل التجاري بينهما، ووصل إلى نحو 65 مليار دولار، بحيث بلغت قيمة الصادارات الهندية 4 مليارات دولار، فيما بلغت وارداتها 61 مليار دولار. وتم الاتفاق بين الزعيمين الهندي والروسي على زيادة التبادل التجاري ليصل إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2030، غير أن ما يؤرق الهند هو الخلل في الميزان التجاري لمصلحة روسيا. لذلك، تعمل نيودلهي على تقليص هذا الفارق الكبير.
وفي إطار آخر، تعدّ روسيا أيضاً أكبر مورد للأسلحة إلى الهند على الرغم من أن حصة روسيا من واردات الهند من الأسلحة تقلصت بشكل كبير في السنوات الأخيرة، إذ عملت نيودلهي على تنويع مصادرها الأجنبية من المعدات العسكرية في السنوات الأخيرة، واشترت الأسلحة من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية. ووفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، انخفضت واردات الهند من الأسلحة الروسية من 76% في الفترة 2009-2013 إلى 36% في الفترة من 2019-2023.
وناقش مودي خلال زيارته موسكو زيادة التعاون العسكري بين روسيا والهند، وتسريع عملية شراء أنظمة الدفاع الصاروخي الروسي s-400، والتدريبات العسكرية المشتركة بين البلدين.
ومن المواضيع الأخرى التي ناقشها رئيس وزراء الهند مع بوتين قضية المواطنين الهنود الذين يخدمون في الجيش الروسي، وإعادة من يريد منهم إلى الهند. وقد وافق الزعيم الروسي على الطلب الهندي.
وتطرَّق الطرفان إلى تعزيز ممر تشيناي فلاديفوستوك البحري بهدف تعزيز التجارة بينهم وممر الشمال. وتسعى الهند إلى تسريع عقد اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي تقوده روسيا، والذي يضم 5 دول (روسيا، قيرغيزستان، أرمينيا، بيلاروسيا، كازاخستان)، إضافة إلى العمل على فتح قنصليتين إضافيتين للهند في روسيا.
تعكس صورة الرئيس بوتين وهو يقود شخصياً سيارة كهربائية مع الزعيم الهندي، عدا عن الصداقة بينهما، أن البلدين يتجهان إلى تعزيز تعاونهما في مجال الطاقة الخضراء. وتشير زيارة الزعيمين جناح عملاق الطاقة النووية الروسي "روساتوم" في معرض "روسيا" في موسكو إلى تعزيز التعاون أيضاً في مجال الطاقة النووية، إذ ستقوم بموسكو ببناء 6 وحدات أخرى للطاقة النووية في الهند، إضافة إلى محطات صغيرة للطاقة النووية.
أبعاد الزيارة
تحمل زيارة رئيس وزراء الهند إلى روسيا أبعاداً عدة؛ فعلاوة على أنها تهدف إلى تعزيز الروابط والعلاقات بين البلدين في مختلف المجالات، فهي أيضاً تأتي في وقت يثير التقارب الروسي الصيني قلق الهند التي لديها علاقات متوترة مع الصين على خلفية المشكلات الحدودية بينهما والتقارب الهندي الأميركي وسعي واشنطن إلى أن تنافس نيودلهي بكين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وأيضاً الخلاف حول موقف الهند من تايوان، إذ دعا مودي بعد إعادة انتخابه إلى تعزيز العلاقات مع الجزيرة.
وربما يعكس غياب مودي عن حضور قمة شنغهاي للتعاون التي عقدت مؤخراً في كازاخستان مدى تأزم العلاقات بين البلدين؛ فمنذ آخر لقاء بين الزعيم الصيني والهندي على هامش قمة البريكس التي عقدت في جنوب أفريقيا العام الماضي، حيث ناقشا مسألة الحدود، لم يلتقِ الزعيمان. ويبدو أن المباحثات التي أجرياها وصلت إلى طريق مسدود. وبالتالي، فإن حفاظ الهند على علاقات جيدة مع روسيا أمر مفيد لها في ظل الشراكة بلا حدود بين الصين وروسيا.
من ناحية أخرى، تثير اتفاقية الدفاع المشترك التي أبرمتها روسيا وكوريا الشمالية خلال زيارة الرئيس بوتين إلى بيونغ يانغ خوف الهند التي أعربت مراراً عن قلقها بشأن التعاون الدفاعي بين باكستان وكوريا الشمالية، فلدى نيودلهي قلق من أن تقوم بيونغ يانغ بتزويد إسلام آباد بأسلحة روسية تزودها بها موسكو.
ينتظر العالم بفارغ الصبر الانتخابات الأميركية لما قد يكون لها من تأثير في مجريات الأحداث العالمية في ما لو عاد الرئيس دونالد ترامب لتولي الرئاسة. ومن المرجح إذا فاز ترامب أن يضع حداً للحرب الأوكرانية. لذلك، من المفيد للهند أن تبقى على علاقة طيبة مع روسيا.
من المحتمل أن تؤدي الهند دور الوساطة بين روسيا وأوكرانيا والغرب نظراً إلى علاقاتها الجيدة مع الأطراف المعنية، إذ ترى الهند أنَّ الدبلوماسية والحوار هما الحل لوضع حد للأزمة الأوكرانية، ورئيس وزراء الهند مودي عندما التقى فلاديمير بوتين عام 2022 قال إن عصر اليوم ليس عصر الحرب.
وأعاد التأكيد خلال اجتماعه مع بوتين مؤخراً على أن الحرب لا يمكن أن تحل المشكلات، فربما وجدت الهند أن الوقت مناسب الآن لكي تؤدي دور الوساطة في الحرب الروسية الأوكرانية، وخصوصاً أن مودي يسعى في ولايته الجديدة إلى أن يكون للهند حضور أقوى في الساحة الدولية.
العلاقات الهندية الأميركية ليست في أحسن أحوالها، وزيارة مودي إلى روسيا هي رسالة إلى الإدارة الأميركية بأن الهند لها استراتيجية خارجية خاصة بها، ولا تستجيب للضغوطات الخارجية حتى من الدول الحليفة، وأنَّ المصلحة الوطنية الهندية فوق كل اعتبار.
مما لا شك فيه أنَّ زيارة مودي إلى روسيا هي انتصار للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يحاول الغرب عزله، وضربة أخرى للغرب بعد زيارة رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان روسيا الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي.
زيارة مودي إلى روسيا فتحت مجالات أوسع للتعاون بين الهند وروسيا في مجالات مختلفة، مع أخذ الهند بعين الاعتبار الهواجس الأميركية من التقارب الهندي الروسي، ولا سيما في مجالي التكنولوجيا والأسلحة، نظراً إلى أهمية واشنطن لدى الهند.
يسعى رئيس وزراء الهند في ولايته الثالثة إلى أن تكون الهند قطباً في العالم المتعدد الأقطاب الذي تقوم روسيا بتشكيله مع دول أخرى، وأن تتولى زعامة الجنوب العالمي عوضاً عن الصين، ونجاح الهند في تولي الوساطة بين روسيا وأوكرانيا والغرب سيكون ضربة للصين التي تريد أن تؤدي دور حامي السلام في العالم.
الهند تسير على حبل مشدود، إذ تركز على علاقاتها الطويلة الأمد مع روسيا، وتحافظ على علاقاتها الأمنية والدفاعية مع الغرب، ولكن إلى أي مدى ستبقى نيودلهي قادرة على تحقيق التوازن؟
انتهی/