بينما تشتد حدة الانتقادات الموجهة للرئيس الأميركي دونالد ترامب على المستويين الداخلي ومثيله الخارجي وبخاصة حلفاؤه فيما يسمى التحالف الدولي، نتيجة تفرده بقرار الانسحاب من سوريا لاعتبارات تتعلق بالتمهيد لحملة انتخاباته الرئاسية المقبلة بعد تعرض حزبه لانتكاسة بالانتخابات النصفية للكونغرس، فضلاً عن ضيق خياراته في التعاطي مع الأزمة السورية. نلمس في المقابل بأن تركيا تلقفت قرار الانسحاب «بديناميكية المصلحة واستغلال الفرص» وبدأت تغير من جدول أعمالها وأجنداتها بناء على هذا المتغير الأخير بالدرجة الأولى، واستثمارها أيضاً ضرورة الحاجة لضلعي أستانا، روسيا وإيران، للحفاظ على علاقات متينة معها، للتوغل في الشمال السوري تحت ذريعة حماية أمنها القومي من التهديدات الإرهابية وفق وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عقب لقائه نظيره الإيراني بداية الأسبوع الجاري.
طهران- وكالة نادي المراسلين الشباب للأنباء - انطلاقاً من ذلك يمكن قراءة السلوك السياسي التركي تجاه شرق شمال سورية ضمن ثلاثة سيناريوهات:
الأول: السعي إلى ما يسمى «ملء الفراغ» في هذه الرقعة الجغرافية بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية وكبديل منها، وهذا السيناريو هو قائم ليس من منطق الطموح التركي فقط في التوسع واقتطاع أجزاء جديدة، بل من واقع الرغبة الأميركية «بدك إسفين الخلاف» بين محور أستانا التي فشلت الجهود الدبلوماسية في الأمم المتحدة وعبر المبعوث الدولي السابق ستيفان دي ميستورا من تطويقه ﻹحياء مسار جنيف مجدداً.
ما يعزز هذا السيناريو أو الطرح ثلاثة مؤشرات، في مقدمتها التصريح الذي أدلى به أردوغان بعد اتصاله الأخير مع ترامب، حيث أكد: سمعنا كلمات صريحة ومشجعة من الإدارة الأميركية حتى الآن ونحن نرحب بذلك، بينما يمثل تسريب شبكة CNN وقبلها صحيفة واشنطن بوست لمضمون وعد وتصريح ترامب لنظيره التركي في 14 كانون الأول «سورية لك.. أنا سأغادرها» المؤشر الثاني، أما المؤشر الثالث هو الاتفاق على انعقاد سلسلة من جولة مباحثات موسعة في أنقرة وواشنطن خلال الأسابيع الثلاثة القادمة لبحث عملية الانسحاب.
– السيناريو الثاني: هو سعي أنقرة لاعتماد سياسة «فرق تسد»، بمعنى آخر أن تلجأ تركيا إلى تفعيل علاقاتها مع البشمركة الكردية التي انتشرت على بعض نقاط الحدود في الشمال مؤخراً، واستقطاب ما تستطيع من القوى والمكونات اﻷخرى في استهداف أعدائها أو الرافضين للتعاون معها على قاعدة: «إن لم تكن صديقي فأنت عدوي».
ولتحقيق هذا المسار جهد التركي خلال الأيام السابقة لبعث رسائل عبر الوسائل كافة للقوى الكردية بما في ذلك ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية – قسد»، حيث تضمنت إحدى تلك الرسائل: «لقد وصلنا إلى نقطة النهاية التي أظهرت تخلي البنتاغون عنكم، وترككم وحدكم، فالذي يتمنى صداقة العقرب، فإنه عاجلاً أم آجلاً محكوم بدخول جحر هذا العقرب، لذلك لا تجعلوا من أنفسكم أداة أو مطية لأحد، ومادمتم مستمرين في تحالفكم وتعاونكم مع PKK فإنكم ستكونون خصماً لتركيا، وهذه الفرصة الأخيرة ﻹظهار صداقتكم لتركيا، لذلك حالاً يجب أن تحرروا مناطقكم بطرد إرهابيي PKK، وأننا في الدولة التركيا نقسم بكل معتقداتنا المقدسة بأننا سنبدد الـPKK وننهي وجودهم، فإما أن تكونوا معنا وإما ستهلكون معهم».
يلاحظ من هذه الرسالة الارتكاز التركي على السياسة الناعمة لكسب تأييد القوى المسلحة والدخول في علاقة معها حتى ضد حكومة دمشق دون إثارة غضب روسيا وإيران على غرار ما حصل سابقاً في إقليم كردستان العراق ضد الحكومة المركزية ببغداد، وفي ذات الوقت تتجنب تركيا حجم الخسائر التي يمكن أن تتكبدها قواتها أو وكلاؤها في أي عدوان عسكري محتمل.
– أما السيناريو الثالث فقد يكون مستبعداً لدى البعض ولكن كلاً من روسيا وإيران يسعيان له، ويكمن في أن يشكل الانسحاب الأميركي فرصة لتعبيد الطريق وعودة التنسيق بين أنقرة ودمشق ولو بشكل غير مباشر، انطلاقاً من واقعين: الأول يتمثل في خشية أنقرة أن تحل باريس بديلاً من واشنطن في قيادة ما يسمى التحالف الدولي وأن تمارس واشنطن سياسة المماطلة في انسحابها، والثاني هو خشية أنقرة من عودة التنسيق والحوار بين دمشق والقوى الكردية وأن يفضي ذلك إلى عودة الحكومة السورية لبسط سيطرتها على تلك المنطقة من جانب ومن جانب آخر أن تتوحد البندقية ضد تركيا ووكلائها في إدلب وبعض مناطق الشمال بمظلة الجيش السوري بعد انضمام القوى الكردية له، وبدعم عربي وبخاصة مصر تجلى جزء منه في مضمون زيارة رئيس المكتب الوطني اللواء علي مملوك لمصر بناء على دعوة الأخيرة التي ربما أوصلت لدمشق رسالة ثانية بعد زيارة البشير.
نحن اليوم أمام مشهد معقد جداً، فالإعلان الأميركي عن الانسحاب لا يعني الانكفاء الغربي عن استهداف سورية وحلفائها بوسائل بديلة، فالمصداقية الأميركية على المحك ودمشق من الواضح أنها تراقب عن كثب ولم تصدر أي بيان أو تصريح رسمي حتى كتابة هذا المقال، لأنها تدرك السلوك الأميركي المتقلب حسب مزاج ومصالح ترامب وتثق بجهود حلفائها الدبلوماسية، وتركيا أمام ثلاث طرق أكثرها سوءاً إشعال فتيل حرب سيطول داخلها وأفضلها تعبيد الطريق إلى دمشق، والقوى الكردية عليها أن تتعلم وتفهم المنطق الأميركي، فأميركا عندما تنتصر تصبح السيد وعندما تخسر تتخلى عن حلفائها بل تبيعهم.
انتهى/