إنّ الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يفاخر به أردوغان هو الثبات على المبدأ، والمبدأ الوحيد الذي يتمترس خلفه هو الحرص على تغير المواقف وانقلابها بشكلٍ مفاجئ وغادر، فطبيعة الأشياء أن التابعين دائمًا يبحثون عن سيدٍ ليتقوا شر سيدٍ آخر، أو لأنه سيدٌ سيمنحهم طعامًا أكثر وراحة أكبر، والأمثلة على تقلبات أردوغان لا تعد ولا تحصى، لذلك فإنّ توقيعه كطرفٍ ضامن على اتفاق مناطق خفض التوتر من ناحية الإلزام، يعتبر ذا قيمة صفرية بل أدنى.
طهران- وكالة نادي المراسلين الشباب للأنباء- النكوث بالعهد هو ما سيحدث وسيظل يحدث طالما في أردوغان عرقٌ ينبض، لأنه ببساطة رجل مبادئ، فالمناطق الآمنة لا تحتاج سوى لأن يغلق أردوغان حدوده كما فاهُ، ولكن هل يملك ذلك حتى لو أراد؟ الإجابة بالقطع لا، فأردوغان لا يملك إلّا هامش مناورة البحث عن سيدٍ مؤقت، ولا يمكن التعامل على قاعدة حسن النوايا في ظل الوجود الأمريكي والمصلحة "الإسرائيلية"، فإنّ آخر ما يهم هو وقف نزيف الدم السوري والحرص على سوريا شعبًا وأرضًا، أو الإحساس المرهف بتعب السوريين.
إنّ آخر ما يعنيني هو السجال الدائر حول سلبيات الاتفاق وإيجابياته على الدولة السورية، فالإيجابية مقطوعٌ بها سياسيًا وعسكريًا وقانونيًا، فإنّ هذه المناطق بهذه الصياغة ستظل خاضعة للسيادة السورية، كما أنها تتيح للدولة ممارسة القوة في حال الإخلال بأيٍ من التزامات النصوص، والأهم أنها ستقلص قائمة "المعارضات المعتدلة" التي يتكاذب بها مجمع العدوان على سوريا، وهو ما سيتيح إدراجها على القوائم الأممية للإرهاب، وبالتالي نزع غطاء الحماية الدولية عنها. كما أنّ يد الدولة ليست مغلولة في استهداف الإرهاب على امتداد الجغرافيا السورية متمثلًا في داعش والنصرة وكل من في فلكهما، وهذا بلفظٍ آخر كل "المعارضات"، باستثناء المناطق المحددة في الاتفاقية إن التزمت الصمت الناري، وهذا يعني المنع البات لاستخدام تلك التنظيمات الإرهابية للسلاح تحت طائلة الاستهداف، وحرمان تلك التنظيمات من الركن الوحيد لقوتها وهو السلاح، يعني أن وجودها يصبح منعدم الأثر لصالح من يملك الكثير من مقومات القوة، وهي الدولة بمؤسساتها المدنية والعدلية والخدمية، وستعاني من تسمى بـ"الخوَذ البيضاء" من البطالة، ولا أملك الكثير من المعلومات عن طبيعة مهام قوات الدول "المحايدة" التي ستشارك في تلك المناطق المحددة، ولكنها بكل الأحوال ليست قوات فصل، بل في أرجح الأحوال قوات إشراف وفي أفضلها قوات مراقبة، وهو ما لا يتعارض مع ولاية الدولة السورية على أراضيها، وقد تشكل هذه القوات لدولها مساحة من النور لإعادة العلاقات مع الدولة السورية.
هذا في حال تم إنفاذ الاتفاق، أما في حال عدم التزام أطراف العدوان على سوريا به، فإنّ أهم ما سينتج عنه هو ترسيخ سوابق ستصبح قواعد مرجعية، تنطلق منها كل اتفاقات تلي "أستانة"، إضفاء صفة الإرهاب على مجمل الفصائل المسلحة، إفراغ مفهوم "المناطق الآمنة"-حسب مفهوم دول العدوان- من جدواها العملية وبالتالي الغاؤها من التداول، وإذا نلاحظ أنه لا وجود لأي محاولة جادة من الدول الراعية للإرهاب، في توحيد صفوفه الميدانية وترميم هشيمه السياسي، فإنّ هذا يجعل ما يتخوفه الكثير من كون هذه الاتفاقية تنم عن تمهيد للتقسيم مجرد وهمٍ كبيرٍ ومغلظ، حيث لا يمكن لهذه الشراذم أن تكون بديلًا للدولة، مهما حاول المتهورون في عواصم العدوان. لذلك كما أسلفت بآخر الهم بالسلبيات والإيجابيات بالنسبة للدولة السورية، بل ما يهم أن يكون هذا الاتفاق بمثابة الهدوء الذي يسبق العاصفة، خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار الضمانة التركية والمباركة الأمريكية والموافقة السعودية، وكأن هناك محاولة لتبريد الجبهات لوقتٍ معلوم، كما أن تصريحات بن سلمان مؤخرًا التي جزم فيها من جانب باستحالة التوافق مع إيران، ومن جانبٍ آخر قرر السير على مهلٍ في اليمن، التبريد بمعنى آخر وتكريسها كحربٍ منسية دون الحاجة لـ"انتصارات" رنانة تستنزف الكثير من المال والأرواح، حيث قال" بإمكاننا القضاء على الحوثيين واتباع صالح في يومين، لكن التكلفة البشرية ستكون باهظة".
وأضاف بن سلمان "بأننا سننقل المعركة إلى وسط طهران بدل أن نحارب في مكة"، وعلى وقع نسيان ترامب لكوريا الشمالية بعد الوصول لشفير الحرب-تبريد أيضًا-، سيقوم بزيارة إلى المنطقة يستهلها بالسعودية ثم "إسرائيل"، وأطلق عدة تصريحات حول الزيارة لا تجافي إرهاصات إنشاء "ناتو إسلامي"، حيث قال "إن الزيارة ستشهد ولادة تحالف جديد لمحاربة الإرهاب"، "وأنها ستشهد مفاجآت"، والإرهاب حسب المفهوم الأمريكي والببغائية السعودية، تصنعه إيران وتدعمه وتذكيه بـ"سلوكياتها" في أحسن الأحوال، لذلك فإنّ هذا الحلف سيكون ضد داعش لذر الرماد في العيون، وضد إيران وهي الهدف الحقيقي، وإذا ما أضفنا ما نقلته صحيفة الـ"واشنطن بوست" عن مسؤولين في البيت الأبيض، من أن ترامب يعول كثيرًا على السعودية في قضية السلام العربي-"الإسرائيلي"، نصبح أمام صورة واضحة مكتملة عن أهداف الحلف والزيارة، وعلى الهامش للمفارقة وقت الصراع حسب أدبيات النفط يكون فلسطينيًا-"إسرائيليًا" وحين السلام يصبح عربيًا-"إسرائيليًا"، لذلك فإنّ هذه الوثيقة إن لم تكن هدوء ما قبل العاصفة، فلا شيء فيها يجعل منها تنازلًا سوريًا أمام الإرهاب أو العدوان.
المصدر/ايهاب زكي - بيروت برس