في كتاب "الحرب" معلومات صُوّرت على أنها حقائق دامغة ومحادثات لا تنتهي، تشعرُك وكأنك أحد أطرافها، وكل ذلك استناداً إلى القاعدة الصحافية المعروفة بـ"الخلفية العميقة"، وفقاً لما ذكره المؤلف.
طهران- وكالة نادي المراسلين الشباب للأنباء- كالعادة، انتشر كتاب بوب وودورد الجديد "الحرب" كالنار في الهشيم ما إن صدر. الغرابة هذه المرة كانت في الحصول على النسخة الإلكترونية منه من دون مقابل مالي، باللغتين الإنكليزية والعربية، وكأن الهدف غير المعلن هو تأمين الانتشار الأوسع بين الناس لحملهم على الاطلاع عمّا سرّب في طيّاته.
في كتاب "الحرب" معلومات صُوّرت على أنها حقائق دامغة ومحادثات لا تنتهي، تشعرُك وكأنك أحد أطرافها، وكل ذلك استناداً إلى القاعدة الصحافية المعروفة بـ"الخلفية العميقة"، وفقاً لما ذكره المؤلف.
الخلاصة الأولى التي يمكن الخروج بها فور الانتهاء من قراءته، كونه صدر قبل موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية 2024، هو أنه ورقة رميت لصالح الحزب الديمقراطي، وتحديداً لصالح الرئيس جو بايدن ونائبته كمالا هاريس. فالوضوح يكاد يكون "فاقعاً" في تمجيد وتبييض صفحة هاتين الشخصيتين على حساب شخصيات عدة ذُكرت فيه، وعلى رأسها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب.
أفرد الكتاب حيّزاً لكل من الرئيس ترامب، والعملية الروسية في أوكرانيا، ولأحداث السابع من أكتوبر (عملية طوفان الأقصى) التي ما زلنا نعيش مجرياتها. في الكتاب مبررات لكل ما قامت به إدارة بايدن، ولكن في السطور وما بينها هناك الكثير ليقال أيضاً من قبل قارئيه.
روسيا وأوكرانيا
في الشق المتعلق بالعملية الروسية في أوكرانيا، كان لافتاً تصوير عدم جدوى الدبلوماسية مع روسيا؛ فرأسها المتمثل بوزير خارجيتها "سيرغي لافروف" صُوّر وكأنه بعيدٌ عن الدائرة الضيقة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبالتالي لم يكن يعلم بقرارات الأخير أي "الحرب". حتى إن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن شعر"بالشفقة" على الرجل و"التعاطف الضئيل" تجاهه. (ص:84)
أراد وودورد أن يقول إن غياب الدبلوماسية يجعل من الحرب أمراً واقعاً، وأن الدبلوماسية الروسية غائبة عن دائرة قرار الحرب، وهو بذلك يعيد إنتاج تصريحات الإدارة الأميركية بداية العملية العسكرية الخاصة، ولكن بقالب صحافي "مستقل". الغريب في الكتاب ما أظهره من عدم امتلاك الاستخبارات الأوكرانية أو الأوروبية أو حتى مجمعات الفكر الأميركية أي معلومات تؤكد حتمية قيام روسيا "بغزو كبير" لأوكرانيا، إنما ما أرادته هو "تجهيز الأرضية العامة للحرب وليس هناك شيء من هذا"، باستثناء الاستخبارات الأميركية والبريطانية التي صالت وجالت على المسؤوليين الأوكرانيين والأوروبيين لتحذيرهم مما هو قادم.
ولم تكتفِ بذلك، إذ لجأت إلى ما يعرف بـ"التخفيض الاستراتيجي" أي السماح بتبادل المعلومات مع الحلفاء والشركاء، وبالتالي التسريب والنشر، ما هيّأ الأرضية لحرب واقعة لا محال بالنسبة لهم. هذه الاستخبارات التي أخطأت تقديراتها أكثر من مرة، والتي سعت إلى حروب مدمرة من دون حسيب أو رقيب، أو أنها ببساطة أرادت تصدير الحسابات الخاطئة، لأنها ببساطة تريد الحرب.
في الكتاب ما يؤشر إلى ذلك بوضوح، من خلال سرد ما جرى من اتصال هاتفي بين كل من الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، والرئيس الحالي جو بايدن. إذ يقول الأول تعقيباً على الانسحاب الأميركي المذل من أفغانستان "يا فتى أدرك ما تمر به في هذه اللحظات، لقد تعرضت للخداع من قبل موظفي الاستخبارات أيضاً". وهذا لم يكن سوى تأكيد متجدد لكذبة أسلحة الدمار الشامل، التي قيل إنها بحوزة الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين. (ص: 67).
الملاحظة الأولى: كان لافتاً الالتزام المخزي بالسردية الإسرائيلية الكاذبة والمضللة. فكل تجاوزات يوم السابع من أكتوبر التي ذكرت على لسان المسؤولين الغربيين وإعلامهم من قتل وحرق للمستوطنين وقطع لرؤوس الأطفال، والتي ثبت زيفها، تمّ ذكرها في الكتاب وكأنها وقائع مسلّم بصحتها. من منا لم يتابع ما جاء به بعض الإعلام العبري الذي أجرى عدة مقابلات مع عناصر في "الجيش" الإسرائيلي كانوا من المشاركين في عمليات ذلك اليوم؟ لقد أكدوا أنهم وبنتيجة الارتباك وضبابية التوجيهات العسكرية، استخدموا نيران المروحيات والمدفعية الثقيلة بشكل عشوائي، فكان هذا العدد من القتلى والمنازل المحروقة بمن فيها.
الملاحظة الثانية: وهنا يظهر خبث هذا الكتاب من خلال ما نقل عن لسان عدد من حكام الدول العربية، أثناء لقائهم وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بعد عملية السابع من أكتوبر.
لا يخفى على أحد أن هؤلاء الحكام ليسوا من مؤيدي المقاومة الفلسطينية، فكيف في مناصرة "حماس"، الحركة التي يحسبونها على جماعة "الإخوان المسلمين". ولكن، ما كتب كان شديد القسوة من ناحية إصرار هؤلاء الحكام العرب على الإجهاز على حماس، وتحميل اللوم لـ"إسرائيل" لأنها لم تفعل ذلك قبل السابع من أكتوبر.
الرسالة الأولى التي حملها الكتاب كانت إلى المقاومة الفلسطينية، وهي أنها وحيدة ولا نصير لها، هذه حالها خلال الحرب وما بعدها أيضاً، إذ تمت الإشارة الى استعداد قطر للطلب من الجناح السياسي لحركة حماس مغادرة الدوحة، على قاعدة أن العلاقة مع الولايات المتحدة "مهمة جداً" ولا يمكن التفريط بها (ص:190). وفي السياق نفسه، ربما حمل الكتاب تحذيراً مبطناً إلى حكام هذه الدول، بإمكانية توريطهم وإحراجهم أكثر، إن لم يتم الالتزام بالشروط الأميركية بالشكل الكامل.
أما الرسالة الثانية، فكانت للغزيين، عبر لسان وزير خارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، وقوله بأن الرياض لن تساهم في إعادة إعمار غزة بحجة أنها "لن تنظف فوضى بيبي". وأن ولي العهد محمد بن سلمان ليس سوى "طفل مدلل" بنظر بلينكن. وفي ذلك استخدام للعصا والجزرة، إذ قد يكبر الطفل في حال أحيا مسار التطبيع –الحاضر دوماً خلال اللقاءات- بين الرياض و"تل أبيب". والأهم أنه ومن خلال محادثات بلينكن- بن سلمان يتضح بأن الشعب في المملكة السعودية ليس ببعيد عن معاناة الفلسطينيين، ولكن الإعلام اختصر ولا يزال البلد وشعبه بقادته فقط لا غير. (ص: 191-193)
الرسالة الثالثة، هدفت إلى تلميع صورة الإمارات ورئيسها محمد بن زايد إذ كان كلامه "واضحاً" و"عادلاً". فأبو ظبي تريد تدمير "حماس"، وأن تأخذ "إسرائيل وقتها في الانتقام"، ولكن أيضاً تريد إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع. (ص: 243)
الرسالة الرابعة كانت إلى مصر، وتحديداً الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي رفض فتح معبر رفح ليتمكن نتنياهو من تهجير الغزيين، بحسب ما ورد في كتاب وودورد. يعرض الكتاب لحجة السيسي في استمرار إغلاق المعبر، وهي قطع الطريق على تشكل "قوة تحريضية" في مصر من شأنها أن تطلق النار على "إسرائيل" عبر الحدود!
في حين رأى رون ديرمر، اليد اليمنى لنتنياهو والرجل الذي أُفردت له مساحات لا بأس بها في الكتاب، "أن رجلاً واحداً ( السيسي) لا يمكن أن يقف في طريق إخلاء القطاع"! (ص:187)
ولكن هذا ليس كل ما يتعلق بمصر، ففي الكتاب رفعت ورقة صفراء بوجه السيسي متمثلة برئيس المخابرات المصرية عباس كامل عبر وصفه بأنه "الشخص الأكثر نفوذاً في مصر بخلاف الرئيس"، والذي قدم النصائح حول كيفية التخلص من حماس وشبكة أنفاقها.
الرسالة الخامسة كانت إلى ملك الأردن الذي التقاه بلينكن، حسب الكتاب، في غرفة الأخير الأنيقة "المجهزة ببار من دون كحول"، وفيها تلقيا نبأ قصف "إسرائيل" المستشفى المعمداني وقتل ما يزيد على 500 شخص. فكان الخوف فقط من ردة فعل الشارع لا أكثر ولا أقل. لا حيثية تذكر للأردن في هذه الحرب إلا من خلال صدّه ومشاركته في إسقاط صواريخ "الوعد الصادق" الإيرانية والمتجهة إلى "تل أبيب"، وفق ما سرد بوب وودورد في كتابه.
حزب الله لبنان
من الأمور اللافتة في الكتاب ما ذكره حول مسارعة رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى استجداء الدعم الأميركي والاتصال بالرئيس جو بايدن لضمان عدم دخول حزب الله المعركة إلى جانب حماس. أما الأكثر غرابة فهو انقلاب نتنياهو بعد أيام قليلة والتلويح "بضربة استباقية" ضد لبنان، ليتطور به الأمر ويبلغ واشنطن أن حزب الله بدأ بهجوم شبيه بالسابع من أكتوبر، والذي تبيّن لاحقاً أن ما قالت عنه الاستخبارات الإسرائيلية أنه مروحيات شراعية قادمة من الشمال ليس سوى سرب من الطيور.
في الكتاب أكثر من إشارة إلى "كذب" مسؤولي "إسرائيل"، ومحاولة تلفيقهم أي حدث يدفع بالتدخل الأميركي المباشر والكامل والسريع، وإلى ضعف الاستخبارات لديهم. يقول مستشار البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط بريت ماكغورك إن "الإسرائيليين يدّعون بأن لديهم معلومات استخبارية، يقولون إنها ستظهر ونراها، ولكن في 50% من المرات لا تظهر هذه المعلومات الاستخبارية المزعومة".(ص:183)
في حين يقول مستشار الأمن القومي جيك سوليفان إن "أكبر فشل استخباري وعملي في تاريخ إسرائيل كان في السابع من أكتوبر، إذ إنهم لم يعلموا بالعملية، ولم يتمكنوا حتى من إيقافها. رغم أن حركة حماس ليست فيرماخت (القوات المسلحة الألمانية)، فهم مجرد بضعة آلاف من الرجال في أحذية رياضية يعبرون الأرض المفتوحة". (ص:273)
أراد الكتاب أن يقول إنّ الإدارة الأميركية لم توقف ضغطها على "إسرائيل" لمراعاة الضوابط الإنسانية في الحرب، وأراد أن يقول إن جو بايدن شخصياً هو رائد هذا الضغط، وأراد كذلك، تحت غطاء تسريب المعلومات الجديدة، أن يمرّر التهم بحق المقاومة كحقائق ومقدمات. انتشر الكتاب بسرعة كجزء من أدوات المخابرات الأميركية في التسريب الصحافي والإعلامي، وسقطت عنه بسرعة حقوق الملكية والطباعة والنشر، ولكنّ الكتاب نفسه سقط معها أيضاً.
انتهی/