ما كان يقال في الخفاء وبكثير من الحرج، أصبحنا نسمع به علناً وعلى رؤوس الأشهاد. وما كنّا نتردد في قوله سرّاً مخافة أن نكون قد وقعنا ضحية أجهزة الأمن السورية فنبدو كسذج أغرار، صرنا نتناقش به على الأسطح وفي الأماكن العامة وبصوت مرتفع.
تستحق الأزمة السورية أن توضع تحت مجهر الدرس والتدقيق لاكتشاف الطريقة التي يجري بها استنساخ العنف عبر استئصال خلايا ونقلها لتزرع في رحم مواتٍ يتكفل بتوفير البيئة اللازمة لاحتضانها ريثما تتحول إلى جنين سرعان ما تقذف به تقلصات الرحم مولوداً صالحاً للحياة.
عندما ارتفعت اللافتات المطالبة بالحرية والديمقراطية في درعا، من كان يتوقع أن تتسلسل الأحداث إلى الوقت الذي نسمع به أن طالبان باكستان تنوي افتتاح مراكز ومعسكرات لها في سورية. من خطر له آنذاك احتمال ولو بسيط ، أن يجري إعدام أبا العلاء المعري وأبا تمام وقطع رؤوسهما، ليرفع اسم أبي مصعب الزرقاوي على أحد معسكرات تدريب الجهاديين. من ورد في أسوأ كوابيسه أن تنتهي محاولات توحيد المعارضة، بإعلان الاندماج بين جبهة النصرة ودولة العراق الإسلامية تحت مسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام، ثم أن تتوج صناعة المجالس والائتلافات التي أدمنتها معارضة الخارج باتفاق بين أبي بكر البغدادي أمير الدولة الإسلامية وبين حكيم الله محسود أمير حركة طالبان باكستان يعلنان فيه أن أرض الشام أصبحت ساحة للجهاد العالمي ضد طواغيت الكفر وفي سبيل إقامة الخلافة الإسلامية.
اتّهم اللواء المنشق سليم إدريس، مؤخراً، رئيس وزراء بريطانيا بأنه خان الثورة السورية لأنه تراجع عن وعوده بإرسال أسلحة نوعية. فإما أن إدريس يهرف بما لا يعرف، أو أنه لا يعرف رغم الخبرة العسكرية التي يفترض أنه يمتلكها ما هي الأسلحة النوعية، لكن المؤكد الوحيد أن إدريس ظلم كاميرون باتهامه بخيانة "ثورته السورية" لأن الأسلحة النوعية وصلت فعلاً.
استخدموا سحر الإعلام لخداع أبصارنا، فبينما انهمكنا في مراقبة "جبهة النصرة" باعتبارها ذروة العنف، كانت الكائنات الجهادية المستنسخة تتكاثر من حولنا، فلما التفتنا حولنا وجدنا أنفسنا غارقين في بحر من العنف والتطرف. وعندما أعدنا النظر إلى جبهة النصرة اكتشفنا أنها تقزمت فجأة أو ربما ولدت قزمة ولكن السحر أظهرها كعملاق ضخم. وليس هذا وحسب بل أصبحت جبهة النصرة معادية لمشروع الجهاد العالمي ومطلوب رأسها على مائدة البغدادي. ولم يشفع للجولاني أنه أعلن البيعة لشيخه وأميره الظواهري زعيم القاعدة في العالم، لأنه على ما يبدو فإن من تداعيات الأزمة السورية أنها غيرت مراكز الثقل ضمن هذا التنظيم ولم يعد الظواهري هو الحوت الأكبر فيه. فليس حدثاً عابراً أن يرفض البغدادي الامتثال لرسالة الظواهري بإلغاء الدمج بينه وبين النصرة، وأن يطلق البغدادي في وجهه شعار: الدولة باقية باقية باقية.
ما لا يعرفه الكثيرون أن دولة العراق الإسلامية ليست كما يقول الإعلام الجناح العراقي للقاعدة! فالدولة الإسلامية بزعامة البغدادي ليست تابعة للقاعدة وليس في عنق البغدادي بيعة للظواهري لذلك استسهل الرد عليه علناً وتسخيف أوامره. والحقيقة الغائبة أن تنظيم القاعدة في العراق هو واحد من ستة وعشرين تنظيماً جهادياً آخر بايعوا الدولة الإسلامية وأميرها البغدادي، فالقاعدة في العراق هي من بايعت البغدادي وليس العكس. وأمر آخر لا يقل أهمية هو أن بيعة الظواهري هي بيعة لولاية الجهاد، أما البيعة التي يحظى بها البغدادي فهي بيعة لولاية عامة. ولذلك فإن البغدادي ينظر إلى نفسه كأمير عام من مستوى الملا عمر ولا يرضى بأن يقارن بالظواهري أو يساوى به في درجات الإمارة.
وهذا ما دفع البغدادي إلى تدفيع الجولاني زعيم النصرة ثمناً غالياً بسبب إعلانه البيعة للظواهري. فالجولاني في نظر البغدادي هو مجرد جندي تحت إمارته كلفه بمهمة معينة، فلما خرج عن حدود مهمته وأراد أن يكبر ويتضخم فاجأه البغدادي بردة فعله الصاعقة. فقد خرج أبو محمد العدناني المتحدث باسم الدولة الإسلامية واتهم الجولاني بالعصيان وشق عصا الطاعة والخروج عن بيعته للبغدادي، ثم جاء البغدادي بشخصه إلى شمال حلب معلناً أن حضور الأصل يلغي الوكيل، فذاب الجولاني ولم نعد نسمع عن أخباره شيئاً، بينما تمدد نفوذ البغدادي وارتفعت لافتات الدولة الإسلامية في العراق والشام في كافة المناطق التي كانت خاضعة لجبهة النصرة سابقاً، باستثناء بعض المناطق القليلة.
تصرفات البغدادي بقيت ضمن حدود أنه يعتبر نفسه أميراً عاماً للعراق والشام، وتمدده في شمال سوريا وبعض المناطق الأخرى لم يكن يفهم منه أكثر من ذلك، لولا ما تمّ تسريبه مؤخراً.
وهذا التسريب له دلالاته وأبعاده، فقد نقلت مصادر جهادية مطلعة أن البغدادي أرسل رسالة إلى أمير حركة طالبان باكستان حكيم الله محسود يقترح عليه فيها إعلان الجهاد العالمي في سوريا وانضمام طالبان إلى هذا الجهاد. وقد جاء الرد بالإيجاب، وأمر محسود القبائل التابعة له بتجنيد المقاتلين للنفير إلى أرض الجهاد والرباط أرض الشام. أين هو الظواهري من كل هذا؟ لا أحد يدري.
ولكن على ما يبدو فإن مخطط البغدادي ينطلق من أن أفغانستان سوف تفقد بعد الانسحاب الأميركي العام المقبل، زخمها الجهادي، ولا بد من إيجاد مركز بديل عنها، وليس من مركز يناسبه ويناسب طموحاته أكثر من سورية التي تعاني من ويلات كثيرة. لذلك كان اتفاقه مع محسود على إعلان سورية أرضاً للجهاد العالمي تستطيع أن تستقطب إليها قوافل الجهاديين قبل أن يحالوا إلى العطالة أو العطالة الجزئية بعد الانسحاب الأميركي.
كثير من الشباب السوري الثوري تعلم اللغة التركية في العامين الماضيين، ويبدو أن بعضهم سوف يضطر إلى تعلم لغة الباشتون الأفغانية كي يستمر محافظاً على ثوريته.
لكن سوريا لن تصبح عاصمة للجهاد العالمي مهما توافدت إليها قوافل الجهاديين، نقول ذلك أولاً اعتماداً على ثقافة الشعب السوري أو غالبية الشعب السوري وأنه لن يرضى بأن يقذف به في مجاهل العنف والموت، وثانياً لأن الجيش السوري ما زال متماسكاً وقوياً رغم كل ما تعرض له، وهو قادر على محاربة مشروع الجهاد العالمي وإيقافه عند حدوده تمهيداً لطرده من أرض سوريا.